فصل: فصل في تسمية زناتة ومبنى هذه الكلمة.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.فصل في تسمية زناتة ومبنى هذه الكلمة.

أعلم أن كثيرا من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة واشتقاقها على ما ليس معروفا للعرب ولا لأهل الجيل أنفسهم فيقال: هو اسم وضعته العرب على هذا الجيل ويقال بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه ويقال: هو زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئا لم تذكره النسابة وقد يقال إنه مشتق ولا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه المادية وربما يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا ويعضده بحكاية خسيسة يدفعها الحق وهذه الأقوال كلها ذهاب إلى أن العرب وضعت لكل شيء اسما وأن استعمالها إنما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالا واشتقاقا وهذا إنما هو في الأكثر وإلا فالعرب قد استعملت كثيرا من غير لغتها في مسماه إما لكونه علما فلا يغير مثل إبراهيم ويوسف وإسحاق من اللغة العبرانية وإما استعانة وتخفيفا لتداوله بين الألسنة كاللجام والديباج والزنجبيل والنيروز والياسمين والآجر فتصير باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم ويسمونها المعربة وقد يغيرونها بعض التغيير في الحركات أو في الحروف وهو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع جديد.
وقد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبذلونه بما يقرب منه في المخرج فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة وإنما نطقت العرب منها بالثمانية والعشرين حروف أبجد وبين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد فمنها ما نطقت به الأمم ومنها ما لم تنطق به ومنها ما نطق به بعض العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا التي هي اسم أبي الجيل كله وهو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم وهم إذا أرادوا الجنس في التعميم الحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات واذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نونا فصار جاناتن ونطقهم بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب بل ينطقون بها بين الجيم والشين وأميل إلى السين ويقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زايا محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين فصارت زانات لفظا مفردا دالا على الجنس.
ثم الحقوا به هاء النسبة وحذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفا لكثرة دورانه على الألسنة والله أعلم.

.فصل في أولية هذا الجيل وطبقاته.

أما أولية هذا الجيل بأفريقية والمغرب فهي مساوية لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلا الله تعالى ولهم شعوب أكثر من أن تحصى مثل مغراوة وبني يفرن وجراوة وبني يرنيان ووجديجن وغمرة وبني ويجفش وواسين وبنى تيغرست وبني مرين وتوجين وبنى عبد الواد وبني راشد وبنى برزال وبني ورنيد وبني زنداك وغيرهم وفي كل واحد من هذه الشعوب بطون متعددة وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل أوراس والزاب إلى قبلة تلمسان ثم إلى وادي ملوية وكانت الكثرة والرياسة فيهم قبل الإسلام لجراوة لهم لمغراوة وبني يفرن.
ولما ملك الإفرنجة بلاد البربر في ضواحيهم صاروا يؤدون لهم طاعة معروفة وخراجا معروفا مؤقتا ويعسكرون معهم في حروبهم ويمتنعون عليهم فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام وزحف المسلمون إلى أفريقية وملك الإفرنجة بها يومئذ جرجير فظاهره زناتة والبربر على شأنه مع المسلمين وانفضوا جميعا وقتل جرجير وأصبحت أموالهم مغانم ونساؤهم سبايا وافتتحت سبيطلة ثم عاود المسلمون غزو أفريقية وافتتحوا جلولاء وغيرها من الأمصار ورجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهم إلى مواطنهم وراء البحر وظن البربر بأنفسهم مقاومة العرب فاجتمعوا وتمسكوا بحصون الجبال واجتمعت زناتة إلى الكاهنة وقومها جراوة بجبل أوراس حسبما نذكره فأثخن العرب فيهم واتبعوهم في الضواحي والجبال والقفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعا وكرها وانقادوا إلى إيالة مصر وتولوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه حتى إذا انحلت بالمغرب عرى الملك العربي وأخرجهم من أفريقية البربر من كتامة وغيرهم قدح هذا الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم وتداول فيهم الملك جيلا بعد جيل في طبقتين حسبما نقصه عليك إن شاء الله تعالى.

.الخبر عن الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح:

كانت هذه الأمة من البربر بأفريقية والمغرب في قوة وكثرة وعديد وجموع وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة ملك الضواحي كلها لهم وعليهم مظاهرة الإفرنجة مما احتاجوا إليهم ولما أطل المسلمون في عساكرهم على أفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون وانفضت جموعهم وافترقت رياستهم ولم بكن بعدها بأفريقية موضع للقاء المسلمين يجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمة من البربر في ناحيتها وموطنا مع من تحيز إليهم من قبل الإفرنجة.
ولما اشتغل المسلمون في حرب علي ومعاوية أغفلوا أمر أفريقية ثم ولاها معاوية بعد عام الجامعة عقبة بن نافع الفهري فأثخن في المغرب في ولايته الثانية وبلغ إلى السوس وقتل بالزاب في مرجعه واجتمعت البربر على كسيلة كبير أوربة وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلوي أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من أفريقية.
وبعث عبد الملك حسان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر وقتلوا كسيلة واسترجعوا القيروان وقرطاجنة وأفريقية والإفرنجة والروم إلى صقلية والأندلس وافترقت رياسة البربر في شعوبهم وكانت زناتة أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعا وبطونا وكان موطن جراوة منهم بجبل أوراس وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا وكانت رياستهم للكاهنة دهبا بنت بن نيعان بن بارو بن مصكسرى بن أفرد بن وصيلا بن جراو وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها فاستبدت عليهم وعلى قومهم بهم وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم.
قال هاني بن بكور الضريسي: ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة وعاشت مائة وسبعا وعشرين سنة وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبر أوراس بإغرائها برابرة تهودا عليه وكان المسلمون يعرفون ذلك منها فلما انقضى جمع البربر وقتل كسيلة رجعوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس وقد ضوى إليها بنو يفرن ومن كان بأفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من أفريقية وانتهى حسان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك فزحف إليهم سنة أربع وسبعين وفض جموعهم وأوقع بهم وقتل الكاهنة واقتحم جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف.
وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما وعقد لهما على قومها جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس ثم افترق فلهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر وكان منهم قوم بسواحل مليلة وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك واليهم نزع بن أبي العيش لما غلبه موسى بن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أول المائة الرابعة حسبما نذكره فنزل عليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن خربت من بعد ذلك والفل منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في بطونه ومن إليهم من قبائل غمارة والله وارث الأرض ومن عليها.